• مصر.. حاتم عمور في ضيافة السفير المغربي
  • الإعدام لـ”ولد الفشوش” قاتل الشاب بدر.. آش قالو المغاربة؟
  • بعد مرور سنوات على استقرارها في كندا.. سناء عكرود تعود للعيش في المغرب
  • “جازابلانكا”.. الفرقة البريطانية الشهيرة “UB40” تحتفل بعيد ميلادها ال45 رفقة جمهور البيضاء
  • إجراءات جديدة.. وزارة الثقافة تحصن التراث المغربي ضد السطو
عاجل
الخميس 24 أبريل 2014 على الساعة 10:30

داخل بيت العزاء!

داخل بيت العزاء! لمختار لغزيوي [email protected]
لمختار لغزيوي larhzioui@gmail.com
لمختار لغزيوي [email protected]

ثم استقال الأخ أحمد. قرأ رسالته على بقية الإخوان. بكى الأخ إدريس وبكت الأخت حسناء، قبلهما معا بكى الأخ عبد القادر، وبعدهما بكى الأخ حسن وكل الإخوان وكل الأخوات.

جفت الدموع في المآقي من فرط البكاء، وسمع المارة في الشارع صوت النحيب المر الحار تخيلوا للوهلة الأولى أن شخصا ما قد مات. سارعوا مثلما يفعل المغاربة في مثيل هاته المناسبات إلى حمل ما تيسر من الزاد والعتاد، وقصدوا دار العزاء.

السرادق كان فخما بعض الشيء. راية بلون حجري أقصى الفناء، شارات نصر كثيرة ووجوه شهداء. معتقلون بالعشرات بل بالمئات في الخلفية الداخلية، وصوت البكاء مرة أخرى. بكاء صادق هاته المرة وبعيد كل البعد عن الرياء.

في المدخل الآخر البعيد تاريخ، وفي مخارج المكان آلاف العبارات المنمقة والمقولات. منها العابر للزمان والمكان، القابض على جمر الخلود، ومنها ماطواه النسيان.

عبد الرحيم كان هناك أيضاً. عفوا، الأخ عبد الرحيم كان هناك. النظارتان الداكنتان وسخرية الشفة اليسرى وكثير التحديق في السماء. قربه الأخ عمر بدماء لا تعرف هي الأولى من وضعها على القميص، ثم بقية الإخوان.

يبكي الأخ الأول فيسارع الجميع إلى العويل معه ثم يعم الصمت المكان. حشرجات يائسة، مناديل تقترب من الأنوف قصد تضميد جراح سوائلها، ثم الصوت الشهير الذي يرتفع في الأفلام والمسلسلات “وحدوووووه”، يأتي الرد من الداخل جماعيا ومن كل الأنحاء “لاإله إلا الله”.

يتمالك الصوت صوته، ويضغط بكل ما امتلك من رباطة جأش على نفسه ويخاطب الجموع الباكية “أيها الإخوان…”. يجيبه النحيب بقوة، وتعانق الدموع العبرات، ويعلو الصراخ كل المكان. تأتي من دواخل التذكر فكرة غريبة، مجنونة، تريد أن تصارح الباكين هنا بأن الحل يوجد بالتأكيد في مكان آخر غير هذا الشجن الذي أصبح الحاكم فجأة. لكن الفكرة تقمع نفسها بنفسها وتنخرط مع أهل النواح فيما يقترفونه من عويل ومن إنتاج لكل هذا الحزن البئيس.

يتولى خطيب من الحاضرين التأبين. يذكر مناقب الفقيد. يدعو لأهله بالصبر والسلوان. يكثر له من عبارات الترحم والاستغفار، ثم يسأل عن الوصية وهل تركها. يتقافز الأبناء هنا وهناك. كل واحد منهم يحمل عقد ازدياد في يده، وكناشا للحالة المدنية وعديد الأوراق. كلهم يقولون إنهم أبناؤه وبناته، وكلهم يقسمون أنه ترك لهم الوصية وحدهم دون تتمة الأنجال. يسألهم عن الوالدات وعن شهود عقود النكاح. يرتبك المجمع قليلا وتبدأ الاتهامات. “ليس من دمنا ولم يكن أبدا”. “إبن حرام وجدناه على باب المسجد ذات صباح”. “أتى به أغراب إلى المنزل يوما وقالوا من الصلب والسلام”.

يطلب منهم الخطيب قليل الهدوء ويؤجل “زمام التريكة” إلى موعد لاحق. يعلن أن فتح الوصية في وضعية “اجتماع مفتوح ودائم”، وتبدأ المشاورات.

في الكولسة الأولى ثم الثانية، فالثالثة فالألف بعد المليون حكايات كثيرة وأساطير أكثر عن الفقيد الذي أوصى أبناءه بأن يراعوا بعد رحيله أو حين الوفاة كل الحرمات. هم أقسموا يوما حول الجثمان المسجى على الوفاء لكن دورة الزمن العجيبة أنستهم أغلظ الأيمان. تذكروا فقط المسارات الشخصية وبناء السير الذاتية وما ستجود به الوصية في الختام.

للذكر مثل حظ الأنثيين، وللإرث نقاش مؤجلة نيرانه حين الجبن وحين الدخول في كل الحسابات. تتساءل الأخوات من خلف حجابهن إن كان الإخوان قادرين على الوصول إلى حل في يوم من الأيام. في الأعين تشكيك كبير في الأمر، ورهان على مفاجآت الأيام المقبلة. يبدو الحل الوحيد أمام المجمع هو أن يستفيق الفقيد من رقدته الآخر حتى وإن انهال عليه كل التراب، وأن يعيد ترتيب البيت من جديد وأن يكتب الوصايا كلها ثم يستعيد الرحيل.

البعض لفرط الوهم الذي أضحى يعيش فيه لا يستبعد هذا الإجراء كحل قد يبدو جامعا، وقد يكون الوحيد الصالح لحل الإشكال. يعلو صوت الخطيب مذكرا القوم أن الموتى لا يبعثون إلا يوم القيامة. يطلب الثبات والتثبيت للعقول التي بدت له حائرة طائرة. يتأكد الجمع من حقيقة الموت وحجم الفقد. يبكي الأخ الأول، تبكي وراءه الأخوات، يتبعهم على النهج ذاته بقية الإخوان.

في المكان حزن، وفي التاريخ جرح، وفي الإساءة التي يرتكبها الأبناء للأب حين الصراع آلاف العلامات على شيء غير حسن إما في التربية أو في الانتماء.

يلم السرادق نفسه ويعلن العزاء أيضاً في حالة انعقاد دائم ومفتوح إلى حين العثور على المزيد من الدموع قصد شيء واحد فقط: مواصلة المزيد من البكاء…