نعم، كان الأمر مسليا في البداية. وكنا معذورين، فقد سكنتنا الحاجة إلى من يأتينا، عبر صندوق أو بدونه، ليروي عطش حقل سياسي جاف، خشبي، متخشب، متحجر، متصحر، ولا يهم أن يفي بالوعد أو ينكصه، المهم أن يسلينا لأننا سئمنا الجفاف.
ولشدة الحاجة، أو التلهف، نسينا أن الديمقراطية تنبني على البرامج الانتخابية. وفي غفلة منا، نحن المعنيون بالأمر أولا وأخيرا، المنتظرون السكَرة بنشوة انتقال لم يكن في الحسبان، تحولت المنافسة إلى من ينتج القاموس الأكثر إضحاكا، وصرنا بذلك، ربما، أكبر شعب ينتج الكلام السياسي. وعوض أن يجتهد السياسيون في إنتاج ما يفيد البلاد والعباد رأينا كيف صاروا متخصصين في تفريخ الكلام، ولا شيء غير الكلام.
في غفلة من أمرنا، صار للسياسة عندنا مفاهيم جديدة، قوامها العفاريت والتماسيح والأشباح وجيوب المقاومة ومن في كروشهم عجائن… وتطور الأمر إلى الفقها وبويا عمر، وحتى تكتمل الصورة ظهر الوزير السكران، وقبله رأينا برلمانيا يعري بطنه، وسمعنا هذا يهدد، والآخر يتوعد، والثالث يقول للأول والثاني: بلاتي عليكم… يجتمعون، يناقشون، يتداولون، ويقررون، ثم يخرجون، يصرحون، يسبون، يلعنون، يهددون، يرغدون، يزبدون، يُكذبون، ينفون، يؤكدون، يقولون… ونحن نتفرج… ولا ندري ما يحدث بالضبط.
اشتقنا إلى من يحدثنا، ولو كذبا، عن مشروع ليبرالي، أو اشتراكي، أو حتى مشروع من فراغ. واشتقنا إلى من يحدثنا، ولو كذبا، عن برنامج لفعل كذا وكذا. اشتقنا إلى من يسوفنا. اشتقنا إلى من يقدم إلينا وعودا كاذبة. اشتقنا إلى من يقول: أنا البديل. إنهم يتحدثون إلي بعضهم البعض فقط. إنهم يفهون بعضهم البعض فقط. إنهم يوزعون الإشارات فيما بينهم فقط. ونحن ننتظر.
هل نسيتم أن في هذا الوطن شعب ينتظر؟
آآآه… نحن من يعرقل الإصلاح. نحن من يعرقل محاربة الفساد. نحن سبب كل مآسي السياسيين في هذا البلد… نحن التماسيح… نحن العفاريت… أبيدونا لتخلو لكم الساحة.