• مصر.. حاتم عمور في ضيافة السفير المغربي
  • الإعدام لـ”ولد الفشوش” قاتل الشاب بدر.. آش قالو المغاربة؟
  • بعد مرور سنوات على استقرارها في كندا.. سناء عكرود تعود للعيش في المغرب
  • “جازابلانكا”.. الفرقة البريطانية الشهيرة “UB40” تحتفل بعيد ميلادها ال45 رفقة جمهور البيضاء
  • إجراءات جديدة.. وزارة الثقافة تحصن التراث المغربي ضد السطو
عاجل
الإثنين 18 سبتمبر 2023 على الساعة 21:00

مملكة الرجال والنساء.. الملائكة تحلق فوق جبال الحوز (روبرتاج)

مملكة الرجال والنساء.. الملائكة تحلق فوق جبال الحوز (روبرتاج)

ليلة الجمعة 8 شتنبر، هزّ زلزال مدمر المغرب. لم يتكشّف حجم الكارثة إلا بعد ساعات، حين بدأت الأرقام تنشر تباعا. بعد لحظات الرعب الأولى، وبعدما قضى مئات الآلاف من المغاربة ليلتهم خارج بيوتهم مخافة الهزّات الارتدادية، بدأ رعبُ الأرقام، حيث أكدت بدايةً أن أعداد الضحايا قد تصل إلى 100 قتيل، ثم بدأت الإحصائيات تتصاعد إلى ما قارب الـ3 آلاف، ليتبيّن أن تداعيات الزلزال كبيرة، وأن الدمار كان هائلا، حاصدا آلاف القتلى والجرحى.
طيلة يوم السبت 9 شتنبر، عاش المغاربة لحظات ذهولٍ وقد بدأت حقائق الزلزال تظهر تباعا، وأعطى انتشار القوات المسلحة الملكية، لإنقاذ المصابين وإغاثة الذين حاصرتهم الأنقاض في أعالي الجبال، مؤشرا على أننا بصدد كارثة تستدعي تدخلا واسعا، من كل مؤسسات الدولة: قوات الجيش والشرطة والدرك الملكي والوقاية المدنية والقطاع الصحي، وغيرهم.
ما جرى كان يتجاوز الحدث الإعلامي إلى الحدث الوطني. لنطرح في مجموعتنا السؤال: “ما الذي يمكن أن نقدمه كمجموعة إعلامية، تضم “ميد راديو” و”الأحداث المغربية” وموقع “كيفاش”، للمنكوبين، عدا عملنا الصحفي الذي تطوّقنا به واجبات المهنة؟”. دون كثير نقاشات، اتخذ قرار أن نتحرّك بقافلة مساعدات عاجلة ضمت 8 مركبات، وأن نساهم بدورنا في إغاثة الضحايا بطريقة مهنية، وإنسانية أيضا، من منطلق مسؤوليتنا الاجتماعية كمؤسسات إعلامية.
في خضم هذه المهمة الصحفية الإنسانية، ولأن الموضوع بسِعة جغرافيا واسعة على امتداد جبال الحوز، تنقلنا في أكثر من منطقة، وخلال هذه الرحلة كانت المشاهدات أكثر من أن يجري إحصاؤها، لتطرح أسئلة من قبيل عن “ماذا يمكننا أن نكتب: عن الدمار والموت الذي رافقه؟ عمّا شاهدناه؟ عن حجم العمل الذي ينتظر المغرب لإعادة الإعمار بعد مهمات الإغاثة والإنقاذ؟”.
أثارتنا في الميدان مشاهدا لنساء ورجال يعملون بجد من أجل هذا الوطن، فعند سماعهم النداء، أجابوا بقلوبهم وأرواحهم، بتناغم كبير، دون توافق مسبق، فحلقوا في سماء جبال الحوز. إليكم المشهد الأول.

المشهد الأول.. بذلة بيضاء
بعد رحلة طويلة وشاقة، انطلقت من مدينة الدار البيضاء عند الساعة الرابعة صباحا من يوم الاثنين، وصلنا إلى منطقة ويرغان في حدود منتصف النهار، بعد توقفات مستمرة. كانت أصوات سيارات الإسعاف والدرك مسموعة في كل مكان، ناهيك عن انتشار مختلف القوات بالقرب من سد ويركان.
“إنهم يبحثون عن ناجين تحت الأنقاض، لقد عثروا على ناجٍ”، بهذه العبارات استقبلنا سكان دوار تيخفيست بجماعة ويرگان.
صادف وصول سياراتنا توجّه رجال الوقاية المدنية والأطباء لجلب المعدّات، عسى أن يتمكنوا من استخراج من قد يكونون على قيد الحياة. حركة نشطة في المنطقة، والجميع ينتظر بفارغ الصبر أخبارا سارة. وبعد دقائق قليلة، تمكن المنقذون من انتشال جثة طفل في الثالثة عشر من عمره كان قد فارق الحياة تحت أنقاض منزل عائلته.
كانت المشاهد صادمة لكل الفريق، إذ فور أن وطئت الأقدام هذه المنطقة المنكوبة، لم تفارقنا أخبار الموت المنتشر في منطقة الحوز.
نصبت الخيام في دوار تيخفيست، وقد تجاوزت العشرة، حيث كان بعض السكان يتلقون العلاجات على أيدي أطر طبية متطوعة. كانت ملامح المنكوبين تفصح عن قصة تلك الليلة الأليمة حين كان الموت “أقرب إليهم من حبل الوريد”.
لم نكن نحتاج إلى التحدث إليهم لنفهم أن ما جرى كان مرعبا، وأن ليلة الزلزال وما تلاها من ساعات كانت قطعة من الفواجع والأخبار المؤلمة.
يجلس شاب عند مدخل خيمة أصبحت منزله المؤقت. إحدى الممرضات مستغرقة في محاولة استبدال ضمادات على رجليه، فيما تعمل زميلاتها بجدّ في خيمة مجاورة. فجأة كسر صراخٌ هدوء اللحظة: “مات مات مات”. اندفع الجميع نحو مصدر الصوت، بينهم الأطباء والممرضات الذين كانوا في طليعة الواصلين عسى أن يكونوا قادرين على إنقاذ من يمكن إنقاذه. ساد صمت ممزوجٌ بالخوف، وعمّ التوتر الذي كان يمكن أن تشعر به يسري دون أن ترى له أثرا في حركة الناس، وقد كان الجميع ينتظر بفارغ الصبر سماعَ خبر سار يأتي من داخل تلك الخيمة التي انطلق منها. خرج الطبيب يحمل بشارة أشاعت روحاً من الأمل وهو يخبر المترقّبين أن الضحية فقد وعيه فقط.
عادت الممرضات إلى ما كان يشغلهن قبل الصراخ، حيث أخبرتنا إحداهن بأن “هذا هو الوضع منذ وصولنا صباح اليوم الاثنين، من خيمة إلى خيمة، ومن حالة مستعجلة إلى أخرى، والحمد لله على كل حال”.

مجهدات أصحاب البدلة البيضاء خلال زلزال الحوز

المشهد الثاني.. “فرح” وسط الحزن

الانتقال من خيمة إلى أخرى جعلنا ندرك أكثر ما ألمّ بسكان دوار تيخفيست، وعموم المنطقة. كانت تيخفيست محطتنا الأولى، وكانت مشهدا مصغّرا لما ينتظرنا. كان سكان المنطقة أول لقاء مباشر لنا مع الناجين من الزلزال المدمر. المعاناة كانت بادية على الوجوه وقد فقدوا كل ما يملكون، وينتظرون إمدادات المساعدات للحصول على الماء أو أي شيء يمكن أن يسدوا به جوعهم.
انزوت الزميلة فرح الباز بعيدا بغرض الاتصال بالإذاعة وهي تحمل في بالها مشاهد المعاناة التي رصدتها. كان قد حان موعد النشرة الإخبارية الاستثنائية. أثناء حديثها، انتبهت إلى ثلاث شابات كن ينظرن إليّ بفضول، فتوجهت إليهن، قبل أن يبادرنني بالسؤال: “واش انتوما من “ميد راديو؟”. أكدت توقعّن، وأوضحت أننا نؤدي مبادرة إنسانية ومهنيو، وأننا فعلا عاملون في المجموعة الإعلامية. فاجأنني بسؤال غير متوقع: “أين محمد العطاري وهشام شبتيت ولمياء بكري؟”.
لم أكن مستعدا للسؤال، ولم أتوقعه، خاصة في هذه الظروف، وفي هذه المنطقة البعيدة. سألت الشابات عن فريق إذاعة “ميد راديو”، وكنّ يحفظن أسماء صحفيين ومنشطين. أجبتهن أنّ بين فريقنا الموجود في المنطقة زميلةٌ تقدم برنامجا بالأمازيغية، وقبل أن أكمل ذكرن اسم الزميلة فرح.
عشنا جميعا لحظة مليئة بالمشاعر، حيث اختلط المهني بالإنساني. تركتهن وذهبت للبحث عن الزميلة الباز، وعندما انتهت من مراسلتها قدمتها للشابات، ثم ابتعدت أحاول استجماع تفاصيل اللحظة في محاولة لفهم كيف أمكن هؤلاء الشابات أن يحتفظن بكل هذا الأمل في قلوبهن للفرح بفريقنا من قلب هذه المأساة.
أخبرتنا الزميلة الباز فيما بعد أن إحداهن، وكانت تحمل رضيعاً على ظهرها، فقدت عمّها جراء الزلزال، وأن عائلتها تعيش الآن في الخيام في انتظار أن تتحسن الأوضاع.

المشهد الثالث.. صحافيات مغامرات

قررنا التوجه إلى تالات نيعقوب، التي لا تبعد عن مركز زلزال الحوز إلا بكيلومترات قليلة. أخبرنا من زملاء كانوا هناك أن الرحلة صعبة جدا. وفي غمرة الترتيب لمواصلة مهمتنا، التقينا الصحافي المغربي البارز هاشم أهل برا، مراسل قناة “الجزيرة الإنجليزية”.
“قمتم بعمل رائع، إذ جمعتم بين المهنية والإنسانية”. هكذا قال الزميل هاشم، وكان لكلماته وقع كبير في النفوس بعد ساعات من العمل، وبعدما أصاب الفريق بعض التعب. أضاف مراسل “الجزيرة الإنجليزية”: “الآن الساعة الرابعة والنصف، إذا كنتم مصممين على الصعود إلى قمة تالات نيعقوب، فأنصحكم بالانطلاق فورا. سيكون طريقكم صعبا، وضعوا في حسبانكم أن الحجارة لا تزال تتساقط (..) ولو يهمّكم رأيي، وبما أنّ معكم صحافيات، أفضل أن تبقوا هنا. لكن، في المقابل، يوجد سكان في تالات نيعقوب بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، كما يحتاجون لإيصال صوتهم”.
بين خياري البقاء حفاظا على السلامة، أو الانطلاق في مهمتنا الإنسانية الصحفية، حسمت الزميلات الصحفيات وقلن بدون تردد: “سنتوجه إلى تالات نيعقوب، ولا يوجد فرق بين الصحفيات والصحفيين”.
كنّ حازمات في جوابهن، لننطلق في رحلة الصعود إلى المنطقة المنكوبة، بعد ساعات من العمل المتواصل. كنّ حريصات خلاله على المساعدة بإصرار، يدا بيد.
لحظة صعودنا تالات نيعقوب، أدركنا سريعا أن الأمر كان يستحق، وأن جهدنا لم يذهب هدرا، وأن الفاجعة أكبر مما تصوّرنا، وفهمنا أن معركة الإغاثة وإعادة البناء ستكون قاسية بحجم ما خلّفه الزلزال.

المشهد الرابع.. رجل الجبال

بقدر ما كان اتخاذ قرار الانتقال إلى تالات نيعقوب يوم الاثنين سهلا بدَفْعٍ من زميلاتنا الصحفيات، كانت طريق الصعود صعبة. ومثلما أخبرنا الزميل هاشم أهل برا، كانت الحجارة تتساقط من أعلى الجبال، فيما لم تتوقف سيارات الإسعاف عن الصعود والنزول.
في سماء المنطقة كان يمكن رؤية مروحيات الجيش والدرك تنقل الإمدادات، إذ كان الوضع أشبه بـ”حالة حرب” ضد الزمن لإنقاذ كل روح، سلاح الجميع فيها أملٌ وإصرار.
كانت قوافل السيارات المدنية، التي تقلّ الصحافيين والمتبرعين، وحتى عربات الجيش التي تنقل الإمدادات والعتاد، تتوقف لإفساح المجال لقوافل كانت تنزل من الجبل بعد أن أنجزت مهمتها وأفرغت حمولتها وأوصلت المسعفين ورجال الإنقاذ.
حركة السير في الاتجاهين تتعطّل، ما زاد الضغط على الجميع بسبب المخاوف من انهيارات صخرية مفاجئة. ويزداد الوضع تعقيدا عند وصول إحدى سيارات الإسعاف التي كانت تحمل مصابين، حيث يضطر الجميع للتحرك سريعا لتأمين عبور سريع.
بعد ساعتين من مغادرة ويركان، كنا قد قطعنا نصف المسافة فقط البالغة 35 كيلومترا. قررنا النزول من سياراتنا للاستراحة والتقاط إشارة الهاتف للاتصال بفريقنا في الدار البيضاء لاستكمال عملنا الصحفي وتقديم تقريرنا، وأيضا لطمأنتهم على أوضاعنا، لكن دون جدوى. وقد صرنا أكثر عزلة وانقطاعا كلما تقدمنا أكثر في المنطقة المنكوبة، مع ما رافق ذلك من توتّر.
وسط كل هذا، ظهر رجل في الخمسينات من عمره، بلحية كثيفة وجسد ممتلئ، يرتدي سروالا قصيرا وحذاء رياضيا. لم يكن هذا أول لقاءٍ لنا به، فقد شاهدناه عدة مرات عند نقطة الانطلاق. فجأة قرر التدخل وحاول تنظيم حركة السير في الاتجاهين، بعدما شهدت استعصاءات بسبب ضيق الطريق وتضرر أجزاء منها بالزلزال، ما أثّر على الحركة في الاتجاهين.
صمود وحرصُ هذا الرجل أدهش الجميع. فبالإضافة إلى توجهه إلى تالات نيعقوب مشيا على قدميه، تدخل لتنظيم السير في الوقت الذي تعطّلت فيه حركة المرور. كان يخاطب السائقين لتيسير الأمور، وفي نفس الوقت كان يتواصل مع شباب من أبناء المنطقة تدخلوا بدورهم لتنظيم حركة السير.
تصرف هذا الرجل، الذي رفض بلطفٍ إعطاءنا تصريحا صحفيا، كان مثالا للعزيمة والإصرار على مساعدة الجميع. وبالرغم من آثار الصدمة التي كانت ظاهرة عليه، إلا أنه لم يفقد إنسانيته، في طريقه إلى القرية المنكوبة.

المشهد الخامس.. زملاء في بؤرة الزلزال

بعد رحلة طويلة وشاقة، انطلقت من الدار البيضاء حوالي الساعة الرابعة صباحا يوم الاثنين، وصلنا إلى تالات نيعقوب حوالي الساعة العاشرة ليلا من نفس اليوم. شعر جميع الفريق بتعب شديد، لكن ما وقعت عليه العيون من مآسي وآثار الدمار كان يسيطر على كل المشاعر، وأنسانا كل شيء.
حجم الدمار كان مفزعاً، وأصبحت الكلمات قاصرة عن كل وصف لما فعله الزلزال بهذه القرية. كنت زرتها في غشت 2022، لكن لم يعد هناك ما يجعلني أتعرّف عليها: انهارت المنازل تماما ولم يتبق شيء وكأنها مُحيت من الخريطة. فقط لوحة كتب عليها “دار الطالبة” بقيت صامدة، لعلها تكون مصدر إلهام وأمل لفتيات القرية.
في تالات نيعقوب كان الحزن منتشرا في كل شبرٍ. كانت رائحة الموت تنبعث من تحت الأنقاض تذكّر بمن قضوا. في لحظة عمّ صمت فجائعيٌ، واعتصر الألم كل الفريق. كل فرد في مهمتنا حاول كبت مشاعره وإخفاء دموعه، لأن ما شاهدناه كان مروعا، وغير قابلٍ للتصديق.
وبين عربات الجيش والوقاية المدنية، ظهر وجهٌ مألوف، وهو زميل تقني في القناة الثانية. توجه إلينا كأنه عثر على عزيزٍ بعد طول انقطاع. “نحن هنا منذ يوم الزلزال، أرسلنا فريقاً إلى مركز الهزة في إيغيل عشية يوم الأحد، فوصل إلى النقطة حوالي الساعة الثالثة صباحا من يوم الاثنين بعد رحلة طويلة مشياً على الأقدام، بينما وصلت المعدّات على ظهور البغال”، يقول الزميل.
تقاسمنا ما كان من ماء مع زميلنا، الذي حكى لنا هولَ ما شاهده. كان متأثرا خلال حديثه عن الأشخاص الذين نجوا، وعن الذين فارقوا الحياة، وعن زملائه الذين عملوا بجد لنقل الأخبار الصحيحة من وسط هذا الكابوس. سكت للحظة وأطلق كلمات مؤلمة: “هناك دواوير يوجد فيها أشخاص مفقودون، لكن لا توجد معلومات عن مكانهم بالتحديد وسط هذه الجبال المترامية بعد أن توفي شيخ المنطقة والمقدم، فانقطع الاتصال بهم.. الله معهم”. ثم ساد صمت رهيب يعبّر عمّا يجول في الخواطر.
ودّعنا زميلنا وعاد إلى عمله في تلك الساعة المتأخرة من الليل، فيما واصلنا طريقنا إلى تالات نياسين، إحدى الدواوير القريبة والمتضررة بشدة.

المشهد السادس.. إنقاذ ليلي

أكملنا المهمة في تالات نياسين، ونحن في طريق العودة إلى تالات نيعقوب، قرب غابة، بدأت تنبعث أضواء، حققنا جيدا، قبل أن يتأكد أنها أضواء تنعكس على ملابس رجال الوقاية المدنية الذين يستعدون للهبوط والبدء في عمليات الحفر والتنقيب في منتصف الليل.
فهمنا أنهم لم يتوقفوا، وأنهم يصلون الليل بالنهار في محاولة الوصول إلى أحياء مفترضين، مسابقين الزمن لإنقاذ الأرواح.
عقد فريق الإنقاذ اجتماعا ميدانيا مع قائده، حيث قدم آخر التعليمات بشأن المهمة الجديدة والخطيرة في هذه الساعة المتأخرة.
كانت المنطقة مليئة بالعقارب والأفاعي، وشهدت طيلة المدة التي تلت الزلزال هزّات ارتدادية، بحيث لم تتوقف انزلاقات التربة وتساقط للحجارة من أعلى الجبال نحو الأسفل، ومع ذلك لم يتراجع المنقذون، وكانوا حريصين على مواصلة مهامهم.
منتصف اليوم الذي وصلنا فيه، كانت هذه الفرق قد تمكنت من إنقاذ سبعة أشخاص، بينهم امرأة عجوز. وبقدر معاناتهم وحزنهم على من ماتوا، كانوا فرحين بنجاحهم في إنقاذ الأرواح. قال أحدهم في وقت لاحق: “رغم ذلك، لا يزال هناك أشخاص موجودين تحت تلك الأنقاض بالقرب من المسجد، ونحن نسابق الزمن لعلّنا نتمكن من إنقاذهم”.
دخلنا ساحة كانت إلى وقت قريب تضم السوق الأسبوعي. بحثنا عن مكان بين سيارات الجيش والوقاية المدنية وقوات الدرك الملكي، قبل أن يوجّهنا أحد الضباط إلى المبيت في منطقة قريبة من اللاقط الهوائي التابع لإحدى شركات الاتصال، تيسيرا لعملنا الصحفي الذي لم يتوقف طيلة مهمتنا الإنسانية.

المشهد السابع.. الرجل الغريب

حين كنّا نستعد للنوم حين ضربت هزة أرضية حوالي الواحدة والنصف صباحًا يوم الثلاثاء، قاربت 4 درجات على سلم ريشتر، وهي الهزة التي أبعدت النوم من جفون عدد منا. ذكرتنا أن الخطر لا يزال قائما، وأن الهزات الارتدادية ستتواصل، وأن كل مساعدة تقدم في وقت أبكر مصيرية للمنكوبين.
لم تمر سوى دقائق قليلة حتى قررت السلطات في ذلك المخيم إطفاء الأنوار بالكامل. غرق الجميع في الظلام، وفي المشاعر. وسط الظلام تعيش خليطا من الشعور بالاطمئنان والخوف والترقّب، وحتى الرعب بعد الهزة الارتدادية. لحظتها تدرك أن هذه القرية بقيت بدون كهرباء وبدون ربط بشبكة الهاتف منقطعةً عن العالم ليومين تقريبا. لم يكن من يوجد خارجها يعرف عن مصير أهلها شيئا، ولم يكن أهلها يعرفون تفاصيل ما حدث خارج منطقتهم. ولعلّ العزلة والشعور بالانقطاع عن العالم عمّق ألم فراق من ماتوا، وألم من أصيبوا.
قضينا ساعات طويلة تحت سطوة الظلام، وحتى النجوم ونور القمر غابا في سماء ملبدة بالغيوم أكملت مشهد الحزن، لم يكن يكسر الظلام الدامس سوى أضواء تنبعث من حين لآخر لرجال الإنقاذ والجيش وهم في طريق عودتهم من مهماتهم الليلية الشاقة.
يحكي إسماعيل الروحي، وهو مصور الفيديو في المجموعة، أنه خرج في منتصف الليل لقضاء حاجته يعتصره الجوع، وفي طريق عودته إلى السيارة، صادف رجلا يحمل كمية من الطعام سأله إن كان يريد “ساندويتش”. قبِله وعاد إلى حيت كان يتجمّع الفريق. أخبرنا: “كان ألذ ساندويتش آكله في حياتي (..) وحين استوقفني الرجل اعتقدت أنني نائم”.
نفس الرجل الغريب توجّه نحو المشرفين على اللاقط الهوائي وقدّم لهم ما تيسر من الطعام، ثم انصرف. في الصباح التالي، سأل إسماعيل عن الرجل، فردّ أحد المشرفين: “لا نعرف من هو. أمس كانت الليلة الثانية التي يجيء فيها ويحضر معه طعاما لنا”.
كرّر إسماعيل حكايته مع الرجل الغريب و”الساندويتش”، وكنّا نمازحه ونخبره أنه لربما أصيب بصدمة وأن ما يحكيه توهماتٌ وأحلام. كنا نخوض في سيرة الرجل ونحن نتناول قطعة خبز يأخذ كل واحد منّا قضمة بالتناوب، لحظتها نظر إلينا عسكري باستغراب ونحن “نلتهم” قطعة الخبر “الحرفي”. سألنا: “باغين الخبز؟”، فجاء الرد، وبلا تردد، بصوت واحد: “آه”.
غاب العسكري للحظات وعاد إلينا بخبز وزّعه علينا بابتسامة، ومازحنا: “هاد الخبز ماشي رطب كيف اللي تتعرفو، هذا خبز العسكر.. خبز الرجال”.
بعد مدة، هبطت مروحية لنقل الجندي ورفاقه إلى وجهة لا نعلم عنها شيئا، لكن جهودهم تخفف عن المنكوبين.

المشهد الأخير.. تلاحم المنكوبين

هنا في في هذه القرية، ثالاث نيعقوب، وفي الساعات الأولى من صباح يوم الثلاثاء 12 شتنبر، تجمّع رجال القرى المجاورة ونظموا أنفسهم في مجموعات. وزّعوا المساعدات التي تلقوها من المتبرعين ومن السلطات.
سألناهم: “إلى أين تأخذون بهذه المؤونة؟”. من خلال جوابهم عرفنا أنهم ينتمون إلى دواوير مختلفة، وأنهم نزلوا من نقاط أبعد ليحملوا إلى أسرهم ما يسدّ جوعهم. من توصّلوا بالمساعدات لم يحتكروها لأنفسهم، بل تقاسموها مع من هم أبعد منهم. قال أحد سكان المنطقة: “سنجلب الدواب لإيصال الأكل إلى الدواوير البعيدة (..) وإذا لم ننظّم العملية هكذا فإن كثيرا من المنكوبين لن يستفيدوا.. التنظيم هو الحل”.
“لكن هذا التنظيم ليس كل الحل”، كما قال المتحدث. من خلال سلوك سكان المنطقة أكدوا أن القناعة صفة راسخة فيهم، فلم يأخذوا ما لا يحتاجونه. “لدينا ما يكفي من الماء، هنا يوجد عناصر الجيش والوقاية المدنية والدرك، هم في أمسّ الحاجة إليه أكثر منا. إنهم يقومون بجهود كبيرة، ولا داعي لتأزيم الوضع أكثر مما هو عليه”.
ورغم نكبتهم وكل المأساة التي عاشوها، شارك سكان المنطقة “الضيوف” ما تبقى لديهم، ولم يبخلوا به و”بهم خَصَاصة”. طيلة رحلتنا استقبلونا بالابتسامة وبأكواب من الشاي. كان يتحدّون الزلزال وآثاره بصبر وشموخٍ شموخَ جبالهم، إذ لم تنسهم الكارثة كرمهم المشهود، وواجهوا الجوع والعطش، وحتى الموت، بالتضامن فيما بينهم، قبل أن يشملهم تضامن المغاربة.
عرضوا علينا من وسط حزنهم أكوابا من الشاي وأطباقا من الكسكس. وفيما كنّا نحمل إليهم المساعدات، وكانوا يقابلونها بكرمهم مما بقي لهم، أو باعتذار إن كانوا فقدوا كل شيء. حرصنا على ألا نردّ كرمهم، وفهمنا أن قيمهم أرسخ من أن يكسرها زلزال.