في سياق الحاجة إلى مراجعة نقدية للتراث السياسي الإسلامي، بَرز كتاب “العدالة والعدل” للدكتور نبيل فازيو، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك في الدار البيضاء، جامعة الحسن الثاني، كعلامة فارقة في هذا المسعى النقدي الداعي إلى العودة إلى منابع هذا التراث، والحفر في طبقاته العميقة، بما يُلائم الخصوصية والشروط التاريخية والمعرفية.
.
وفي سياق مناقشة الكتاب، خلال ندوة نظمها مختبر الفلسفة بالمعرض الدولي للنشر والكتاب في الرباط،، يتّضح أنه صدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود سنة 2019، ويقع في ثلاثمائة وثمانية وتسعين صفحة، موزعة على خمسة فصول تتفاوت في الطول والعمق.
واستهلّ د.فازيو مداخلته بملاحظة مركزية مفادها أن بعض الفلاسفة المعاصرين يميلون إلى استنبات مشاريعهم الفكرية في تربة التقليد الفلسفي الغربي، لاسيما بعد أن فرض جون رولز، بعمله الشهير “نظرية في العدالة”، نمطًا مرجعيًا لكل من يتناول موضوع العدالة، وفي المقابل لم تصحب هذه المحاكاة أي مساءلة جذرية للخصوصية المفهومية لمفهومي العدل والعدالة في الفكر الإسلامي.
ومن هذا المنطلق، ينبثق ما يسميه الباحث بـ”سبب النزول”، الذي ألهمه الشروع في التفكير التفصيلي في الإشكالية، واضعًا نصب عينيه هدف تفكيك النموذج السائد في الفكر السياسي الإسلامي، الذي يعتبر ممارسة السلطة نموذجًا مرجعيًا رئيسيًا في بنية التفكير السياسي التقليدي.
نشأة الشرعية ومفهوم السلطة
ويتناول فازيو في كتابه آليات نشأة الشرعية في الفكر الإسلامي، مقاربًا العلاقة بين ممارسة السلطة والقواعد القانونية كما تجلت في التراث الإسلامي.
وبخلاف الطرح التقليدي الذي يرى في ممارسة السلطة مجرد مكون عادي في التنظيم السياسي، يكشف المؤلف أن هذه الممارسة شكلت الرابط الأساسي الذي يؤطر التصور العام لإدارة الشأن العام في الوعي الإسلامي، فالسياسة، كما يرصدها، تتحدد في المجتمعات الإسلامية من خلال طبيعة تصور ممارسة السلطة ذاتها، وليس عبر مجرد معايير قانونية أو مؤسسية.
تفكيك البرادايم التقليدي
ينبه الدكتور نبيل فازيو إلى خطورة الإعراض عن نقد التراث السياسي ومفاهيمه المؤسسة، مؤكدًا أن هذا التراث لا يزال يؤطر تصوراتنا السياسية الراهنة، بل ويغذي تيارات الإسلام السياسي، خصوصًا مع بروز حركات ما بعد “الربيع العربي”، لذلك، لا يستقيم نقد التراث بالقطيعة العدمية معه، ولا بالانغلاق داخله، وإنما عبر اتخاذ مسافة معرفية نقدية تقوم على تفهم أعمق لسياقاته وأغراضه ومقولاته الكبرى.
ويراهن فازيو، من خلال قراءته للتراث، على تفكيك النموذج التقليدي، مبرزًا كيف تشكل مفاهيم السلطة والشرعية كمفاهيم مهيمنة في المخيال السياسي الإسلامي الكلاسيكي.ويخصص حيزًا هامًا للحديث عن إسهام الماوردي في تشييد هذا التصور الواقعي للمشروعية السياسية، حيث رأى في تقبل الواقع السياسي مدخلاً ضروريًا لإصلاحه، مبتعدًا عن المثالية الطوباوية التي ميزت محاولات سابقة.
ويميز الكتاب بوضوح بين فعلي التبرير والتسويغ داخل التراث السياسي الإسلامي. فالتبرير يرتبط بالسعي إلى إضفاء مشروعية على السياسات القمعية عبر التواطؤ مع السلطة، بينما يتجه التسويغ إلى محاولة منح الواقع السياسي مقبولية مشروطة بضرورة مراعاة مقتضيات العدل.
وأظهر فازيو، استنادًا إلى نصوص الماوردي، أن الأخير تجاوز حدود التبرير التقليدي للسلطة من خلال إبراز أهمية “ترغيب” الرعية وإقناعها، بدلًا من إخضاعها بالقهر والعنف، واضعًا بذلك ملامح أولية لنموذج من السلطة الرضائية المرتبطة بالعدل والإنصاف.
قراءة نقدية تعمق النقاش
في هذا الإطار، يتوقف الكاتب عند التمييز الجوهري بين مفهومي العدل والإنصاف في الفكر الإسلامي، لافتًا إلى أن الماوردي عمل على تحرير قيمة العدل من طابعها المتعالي المجرد، ليقرنها بفعل التدبير العادل الذي يضمن حقوق الرعية ويؤسس لمشروعية الحكم على قاعدة الإنصاف لا على قاعدة الغلبة والاستبداد.
غير أن الفكر السياسي الإسلامي، رغم هذه البوادر، لم يتمكن من إرساء فصل جذري بين مفهومي السلطة والشرعية، بفعل الإكراهات التاريخية والمعرفية التي ظلت تحصر التفكير السياسي في أفق محدود لم يكن يسمح بميلاد تصور حداثي للسلطة.
وفي سياق مناقشة الكتاب في الندوة نفسها التي نظمها مختبر الفلسفة التابع لكلية آداب والعلوم الإنسانية في الدار البيضاء بالمعرض الدولي للنشر والكتاب في الرباط، أضافت مداخلات أساتذة فضلاء مزيدًا من التأصيل والتعمق في موضوع الكتاب، فقد تناول كل من الأساتذة الباحثين عبد المجيد مستقيم وخالد لحميدي ومحمد زكاري الكتاب من زوايا متعددة، مؤكدين أهميته في طرح الأسئلة الكبرى حول العدالة والسياسة في الفكر الإسلامي.
وأكد الأستاذ خالد لحميدي: “أن العدالة، كما يناقشها فازيو، ليست مجرد تطبيق مادي للحقوق، بل هي عملية فكرية تتطلب منا إعادة النظر في علاقتنا بالمفهوم التقليدي للسلطة، الذي كان غالبًا ما يتبنى منطق القوة والسلطة المطلقة.”
وتابع الدكتور لحميدي في مضمون مداخلته التأكيد على ضرورة عدم فصل العدالة عن مفهوم الإنصاف الذي يمكن أن يحقق العدالة في واقعنا المعاصر.
وتشير مداخلة د. عبد المجيد مستقيم إلى أن فكرة تفكيك البرادايم التقليدي للسلطة تعد خطوة جريئة في قراءة التراث الإسلامي السياسي، وتفتح المجال لفهم أعمق حول مسألة العدالة التي يجب أن تنبني على تفاعل فلسفي مع السياقات المعاصرة.”
وفي السياق نفسه، يكتب عن أهمية أن يتم فهم فكر الماوردي من منظور جديد يتجاوز التفسير التقليدي للمفاهيم الإسلامية.
من جهته ركّز الأستاذ والأكاديمي الباحث د.محمد زكاري من جهته ركز على العلاقة بين الفكر السياسي الإسلامي والفكر الغربي المعاصر، حيث قال: “النقد الذي يقدمه فازيو للتراث السياسي ليس نقدًا تدميريًا، بل هو بمثابة دعوة لإعادة بناء المفاهيم السياسية على أسس يمكن أن تتفاعل مع التحديات الحديثة، مما يعني أن الفكر الإسلامي بحاجة إلى إعادة تأصيل العدالة داخل بيئته الفكرية الخاصة.