في ظل التحولات السياسية والتكنولوجية المُتسارعة التي يشهدها العالم المُعاصر، نظّم مختبر اللوغوس، قُطب الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك – الدار البيضاء، ندوة فكريةً وطنيةً، موسومة بعنوان “الفلسفة السياسية: قضايا وإشكالات”، الخميس 19 يونيو (2025)، بمشاركةِ نخبة من الأكاديميين والباحثين، وخُصصت لمساءلة قضايا الدولة، والحق، والشرعية، والإنسان، من زاوية فلسفية راهنية ومتجددة.
وافتُتحت أشغال الندوة بمداخلة الدكتور عبد اللطيف فتح الدين، نائب رئيس مختبر لوغوس، قطب الفلسفة، تلتها كلمة الدكتورة سميرة الركيبي، نائبة عميدة الكلية المكلفة بالبحث العلمي، ثم كلمة الدكتور نبيل فازيو عن اللجنة المنظمة.
وقال الدكتور عبد اللطيف فتح الدين، إن هذه الندوة ليست مناسبة فكرية عابرة، ولا ترفاً ثقافيا، بل هي لحظة أكاديمية تُسائل مفاهيم كبرى، مشيرًا إلى أن “أزمة السياسة المعاصرة ليست أزمة قانون فحسب، بل هي في جوهرها أزمة فكرية وأخلاقية”.
وأضاف نائب رئيس المختبر الأكاديمي: “إن استدعاء الفلسفة السياسية اليوم بات ضرورة معرفية”، كما توجّه بالشكر إلى الدكتورة ليلى مزيان، عميدة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك في الدار البيضاء، ونائبتها سميرة الركيبي، وكافة الأطر العلمية والإدارية، على دعمهم المتواصل للمختبر، مؤكّدًا أن ما تحقق من فضاءات علمية لم يكن ليتأتى لولا التعاون المؤسساتي الجاد.
الفلسفة السياسية الحديثة
وترأس الجلسة الأولى الدكتور محمد الشيخ، مستهلا إيّاها بعبارة حكيمة فلسفيا تنمّ عن وعي بأهمية الفلسفة السياسية، قال فيها: “إنه في زمننا هذا، هناك ثلاث مجالات لا يُمكن للإنسان أن يَعتزلها، حتى وإن حاول: الدين، والسياسة، والتكنولوجيا”، موضحاً” “إنه إذا ما انشغلت بحديقتك، قد تشتَغل بك السياسة، كما قال جوليان فروند”.
وأثرى الدكتور عز العرب لحكيم بناني المداخلات بورقة بعنوان “قوة القانون وقانون الفلسفة”، استعرض فيها المفارقة الكانطية بين الميل الفردي نحو الشر والنزوع الجماعي نحو الخير، محذرًا من فراغ القانون إذا غاب عنه الأفق الأخلاقي، ومتوقفًا عند الجدل بين “قوة الأخلاق” و”أخلاق القوة” كما ظهر في محاورة “غورغياس” ومخطوطات سفسطائية حديثة الاكتشاف.
أما الدكتور عبد اللطيف فتح الدين، فواصل التأمل في مشروع الدولة لدى كانط، مبرزًا تمايزه عن تصورات هوبز ولوك، إذ لا تُختزل الدولة، في نظره، في الضبط، بل تتجلى كتعهد أخلاقي بصون الحرية. وربط هذه الرؤية بالسياق العربي، حيث تواجه المجتمعات تحديات تتعلق ببناء الدولة المدنية، والعلاقة بين الدين والسياسة، وآليات الحكم الرشيد.
وفي مداخلة بعنوان “الاستبداد في فلسفة هيغل”, حللت الدكتورة ابتسام براج تأويلات فلسفة الحق الهيغلية، مشيرة إلى كيف تحوّلت أحيانًا إلى غطاء نظري لتبرير الحكم المطلق، مستندة إلى قراءات نقدية لشارلز تايلور وكارل بوبر اللذين صنّفا هيغل ضمن المنظرين للشموليّات الحديثة.
وختم الدكتور محمد بن المقدم الجلسة بمناقشة إشكالية “الحرية والأمن” في فلسفة جورجيو أغامبين وآيزايا برلين، محللًا التوتر القائم بين مطلب الحماية ومقتضيات السيادة في الفكر السياسي المعاصر.
وحسب الأستاذ الباحث، يقدّم جورجيو أغامبين وآيزايا برلين رؤى نقدية حول العلاقة المعقّدة بين الحرية والأمن، لاسيما في أوقات الأزمات.
وقد نبّه الدكتور بن المقدم إلى أن أغامبين طوّر فكرة السيادة لدى كارل شميث، مؤوّلًا إياها كأقصى أشكال السيطرة، التي تؤدي إلى تجريد الأفراد من إنسانيتهم، مما يُهدّد بتقويض مفهوم الحرية.
أما إشعيا برلين، فيُميّز بين الحرية السلبية والحرية الإيجابية، وهو تمييز يتيح فهماً أعمق للمفارقة الأخلاقية زمن الأزمات، حول التوتر بين تمكين الدولة من ضمان الأمن لتحقيق المصلحة العامة، وبين صيانة الحرية الفردية، لاسيما في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية.
اللاهوت السياسي بين التاريخ والنقد
ترأس الدكتور عبد القادر كنكاي الجلسة الثانية الموسومة بـ”قضايا اللاهوت السياسي”، حيث قدّم الدكتور عبد الله المتوكل قراءة في التوظيف الإيديولوجي للدين والعلوم الإنسانية من طرف القوى الاستعمارية، مستعرضًا نماذج تاريخية توضّح هذا التواطؤ المفهومي.
ومن جهته، تناول الدكتور رشيد بن السيد التوتر بين العقل والشريعة في فلسفة ابن ميمون، مؤكدًا أن غاية القانون، عنده، هي التي تحدد طبيعته، إلهية كانت أم إنسانية.
فالقانون الديني، في هذا المنظور، لا يكتفي بضبط الأجساد، بل يطمح إلى تزكية النفس ورقيّ العقل.
أما الدكتور إبراهيم ونزار، فرامت مداخلته إلى مقاربة إشكالية “عودة اللاهوت السياسي” إلى النقاش الفلسفي المعاصر خلال النصف الأول من القرن 20م، من خلال بسط الحجج التي تدافع عن هذه الفكرة، وعرض أنظار المشككين عليها عرضًا مكافِئا، وما تلا ذلك من مراجعات تاريخية وفلسفية ولاهوتية.
وهو التوجه، الذي سينقاد به الإشكال المركزي الآتي: بأي معنى يمكن الحديث عن لاهوت سياسي في نُظُم السُّلطة المعاصرة؟ وما هي التماثلات الدلالية التي أقام عليها كارل شميت ادعاءه هذا؟ وهل هو نقاش تقليدي يتأطر بثنائية محدودة بالدين والسياسة أم أنه معضلة تشريعية خرجت من قلب الفقه القانوني، وطرحت أمام النقد السياسي المعاصر أسئلة تقيس منسوب العلمنة فيها، وتتأرجحُ بين إقرار بوجود لاهوت سياسي أو تشكيك فيه – كما هو الحال مع بيترسون -؟
واختتم الدكتور رشيد بنبابا الجلسة بمداخلة حول نظرية هانس كلسن في القانون الدستوري، مشددًا على مركزية “القاعدة الأساس” التي تُعدُّ الذروة في البنيان القانوني للدولة الحديثة، منبهًا إلى أهمية ربط القواعد القانونية بالقاعدة الدستورية سواء من الناحية الثابتة أو الإجرائية، ومبرزًا أن دولة القانون، في تصوره، لا تُتصور إلا بوجود قانون يضبط الفعل السياسي ويخضعه للمساءلة.
الفلسفة السياسية في الفكر الإسلامي
الجلسة الثالثة، برئاسة الدكتور سعيد بنتاجر، خُصصت لموقع الفلسفة السياسية في الفكر الإسلامي، حيث أثار الدكتور محمد الشيخ تساؤلات حول هشاشة هذا الحقل في الفلسفة الإسلامية، داعيًا إلى تجاوز الأحكام التقليدية، ومُؤكدًا الحاجة إلى تجديد النظر في مداه ومفاهيمه.
أما الدكتور نبيل فازيو، فقد أرجع تأخر نشوء فلسفة سياسية إسلامية ناضجة إلى هيمنة السلطة الدينية ومعيقات نظرية حالت دون بناء تصور فلسفي متكامل حول الاجتماع السياسي، رغم الحضور القوي لنصوص أفلاطون وأرسطو في المتن الإسلامي الكلاسيكي.
وشدد الدكتور فازيو، على أنه ليس المقصود بذلك، أن هذا الفكر لم يكن على دراية بنصوص الفلسفة السياسية السابقة له، ولعل حضور نصوص افلاطون وارسطو والشروح التي أنجزت حولهما يبقى خير دليل على مدى استيعاب المفكرين المسلمين لتلك النصوص، وإنما المقصود بذلك أن إبداع فلسفة السياسة قادرة على بلورة فهم معقول لطبيعة الاجتماع السياسي الاسلامي ظل مهمة منقوصة، وأن الشرح الذي انجز ما كان كافيا لتحقيق مثل هذه الغاية.
وسلط الدكتور محمد زكاري الضوء على البُعد الأخلاقي في فلسفة الفارابي وابن سينا، مبرزًا كيف تجاوزت الفلسفة السياسية الإسلامية الفهم القانوني البحت، لتربط النظام السياسي بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق، واضعةً غاية الدولة في إقامة مدينة فاضلة تَسِمها العدالة والصلاح الذاتي.
وختم الدكتور يوسف بن عدي بمقارنة بين الفارابي وابن رشد، متوقفًا عند العوائق البنيوية التي حالت دون بلورة مشروع سياسي فلسفي في السياق الإسلامي الوسيط، مرجعًا ذلك إلى هيمنة الفقهاء وغياب الحس التاريخي في مقاربتهم لقضايا الدولة والعدالة والحرية.
قضايا الهوية وتحولات الفكر السياسي
وقبل ختام الندوة، ترأس الدكتور عبد العلي معزوز الجلسة الرابعة والأخيرة، التي ناقشت “قضايا الهوية وتحولات الفكر السياسي المعاصر”.
وقدم الدكتور الحسان سليماني، خلال هذه الجلسة الختامية، دراسة مقارنة بين هوبز وسبينوزا حول الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي، وقال سليماني، إن الفلسفة السياسية الحديثة قامت على مفاهيم حالة الطبيعة والعقد الاجتماعي والحق الطبيعي باعتبارها مفاهيم جوهرية لفهم طبيعة الدولة الحديثة وأسس مشروعيتها، إلا أن توظيف فلاسفة الحداثة السياسية لتلك المفاهيم لم يكن توظيفا نظريا، إنما كان انعكاسا لوضع تاريخي وسياسي سمته الأساس الثورة على الموروث اليوناني والمسيحي في الفكر والأخلاق والسياسة، مما فرض بالضرورة توجيه النظر الفلسفي في قضايا السياسة توجيها مغايرا اختلفت رهاناته باختلاف المرجعيات التي صدر عنها كل فيلسوف.
وكان الهدف من وراء المداخلة للدكتور سليماني، الوقوف على الاختلافات المنهجية بين النظرية السياسية لكل من توماس هوبز 1588-1679 وباروخ سبينوزا 1632-1677 وتحديدهما طبيعة العقد الاجتماعي في علاقته بمفهوم الحق الطبيعي؛ وذلك من طريق المقارنة بين تصورهما لمفاهيم الانسان وحالة الطبيعة وأسس الدولة. تصحيح المقال وحذف أي حشو أو عبارات مكررة، واحترام تدخلات الأساتذة مع الربط بأسلوب رصين.
وفي مداخلته الموسومة بـ “الوساطة المعرفية ورهان تجاوز أزمة الدولة في السياقات العربية المعاصرة”، يُقارب الدكتور المهدي مستقيم إشكالية الدولة من مدخل فلسفي-سياسي، يربط بين مفهوم الشرعية السياسية وأسس التعاقد الاجتماعي، بوصفه مدخلاً ضرورياً لتشييد الدولة الوطنية، حيث ينطلق في تحليله من تصورٍ يُمَوقِعُ السياسة ضمن أفقها الإنساني، حيث لا يكون الحكم مجرد تقنية معرفية أو تنظيراً عقلانياً، بل ممارسة تُفترض فيها الحرية كمقوم أساسي، نابع من جماعة سياسية واعية بذاتها وبمصيرها المشترك.
ويستدعي المتدخل تأملات حنة آرندت التي تؤكد بأن السياسة لا تتحقق إلا بتحقق ما تعد به، وأعظم ما تعد به هو الحرية. غير أن هذه الحرية لا تُمنح من علٍ، بل تتأسس من داخل الفضاء العمومي الذي ينشأ من الفعل السياسي المشترك، القائم على التشاركية والتعدّدية. فالمعايير التي يستند إليها الحكم لا تُشتق من معاني متعالية، بل من واقع التعدد البشري نفسه، بما يُحيل على أن السياسة لا تكون ممكنة إلا في حضور وساطة معرفية تُعيد صوغ العلاقة بين السلطة والمجتمع على قاعدة من الشرعية التوافقية.
ويُشدّد الأستاذ مستقيم على أن تجاوز أزمة الدولة في السياقات العربية الراهنة، لا يمكن أن يتم دون ترسيخ مبدأ التعاقد السياسي داخل النسيج الاجتماعي، بما يقتضيه من وعي جماعي مشترك بهوية جامعة، تنبثق عنها قيم الحق والواجب، وتتبلور ضمن مشروع سياسي يجد مشروعيته من الانخراط الإرادي للأفراد فيه، لا من الإكراه أو الهيمنة.